إشراقة 

الحسد أكول للحسنات

 

 

 

 

 

     لايكون الحسد في المال والثراء فقط – كما يَتَبَادَرُ ذلك إلى الذهن – وإنما يتحاسد الناسُ كذلك في العزّ والجاه، والسمعة الطيبة، والذكر الحسن، والحبّ العامّ، والإعجاب المطبق. وكأنهم يحسدون على المرأ صلاحَه الزائدَ الذي أكْسَبَه الشعبيةَ والحبَّ الصافيَ المطبقَ الذي تَجَذَّرَ في القلوب، وأصبح ثناءً على الألسنة .

     جَرَّبْتُ ذلك مرارًا، حتى أصبح لديَّ حقيقةً لاتُنْكُر . وجدتُ بعضَ الإخوان حَرَّروا كتاباتٍ ووَضَعُوا مُؤَلَّفات حصدت الثناءَ من الألسنة، والإعجابَ البالغ من العارفين بقيمة المواضيع التي تَنَاوَلَتْها، والمُقَدِّرِين لروعة الأسلوب الذي أَعْمَلُوه لدى الطَّرح والتحرير؛ فنَشَأَ الحسدُ لدى بعض اللئام من ذوي القلوب الضيّقة والعيون القاصرة الأطراف، واقْتَنَوْا هذه الكتبَ والكتابات المغبوطة المُثْنَىٰ عليها، المُتَنَافَس في قراءتها، ونهضوا يتصفّحونها ويعيدون فيها النظر، ويتحسّسون كلَّ كلمة وكل حرف فيها، بغية أن يجدوا فيها ما يطلعون به على القراء متخذين إيّاه ذريعةً إلى انتقاص قدر الكاتب والكتاب والتشهير بأنهما عارانِ على الوسط الثقافي والمجتمع العلميّ، والقول بأن أمثال هذه الكتب والكتابات تُضَلِّل القراء والمستفيدين بمعلوماتها الخاطئة ولغتها الضعيفة، وأسلوبها الخارج على السليقة اللغوية، وأنه لا شيء عاصم من التورّط في الضلال المخوف إلاّ الاحتراز من اقتنائها وقراءتها . وكلُّ حاسد يجد ما يُشْبِع حسدَه نحو من يحسده ويحقد عليه؛ فوجدوا في الكتب والكتابات ما لَيَّنُوه وحَرَّفوه عن مواضعه، ووضعوا مقالاً عن أخطائها العلمية واللغويّة، وطبعوه كُتَيِّبًا، ووزّعوه فيمن لم يكن لديهم أيّ حرص على الاطّلاع على تلك الأخطاء المُتَصَيَّدة التي قد يستطيع أن يلتقطها حاقد على مثل الإمام الغزاليّ (أبي حامد حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزالي 450-505هـ = 1058-1111م) وابن تيمية (أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الحراني الدمشقي 661-728هـ = 1263-1328م) ومؤلّفاتهما وعلى من قبلهما ومن بعدهما من أعلام الأئمة في الدين والعلم والتقى والزهد . وقد صدق الإمام الشافعيّ رحمه الله (أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس الهاشمي القرشي المطلبي 150-204هـ = 767-820م) الذي نَطَقَتْ أبياتُه بحقائق الحياة وتجارب الزمان ومواقف الإنسان بشكل لم تَنْطِقْ به إلاّ أبياتُ شعراءَ معدودين على الأصابع في دنيا الله، إذ قال:

وعَيْنُ الــرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَــــةٌ

وَلـٰـكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا

     على حين إنّ الحُسَّدَ هؤلاء لم يكن بينهم وبين ذوي المُؤَلَّفَات والكتابات أيُّ نوع من سابق العداء أو الخصام، وإنّما حملهم على الحسد ما شاهدوه من الشهرة الواسعة والذكر الجميل الذي كان نصيبَهم بفضل غناء مُؤَلَّفَاتهم وكتاباتهم موادَّ وأسلوبًا وروعةَ لغة تَأَتَّتْ لهم بجدّهم وبتوفيق الله معًا؛ فبدلَ أن يُعْجَبَ الحاسدون بهم وبكتاباتهم وكتبهم إعجابَ الآخرين من الإخوان القراء دَفَعَتْهم طبيعتُهم المنتنة إلى إعمال الخبث والدناءة والنذالة التي لم يكونوا ليخرجوا عن طورها ويتخطَّوا حدَّها إلى الطيب والمروءة والكرم . وقد وَجَّهُوا أيضًا نسخةً نسخة من الكُتَيِّب إلى مُؤَلِّفِي الكتب ليطّلعوا على «الأخطاء» التي عَدَّدَها الحُسَّد؛ فيعرفوا قيمةَ مُؤَلَّفَاتهم و ينتهوا – ولو بعضَ الشيء – عن «الإعجاب بأنفسهم» وبكتبهم وكتاباتهم، ويتأكّدوا أن إنتاجاتهم العلمية وكتاباتهم الإسلامية لاترتقي إلى مستوى النشر والتوزيع بين القراء؛ لأنّها ينقصها النضوج والتمكّن والصحة والإتقان إلى جانب فقرها إلى روعة العرض ودقة التنسيق ولباقة التصنيف للمواد ووضع المُحْتَوَيَات في مواضعها، حتى يكون نصيب القراء من الاستفادة منها موفورًا، ولا يعودوا بعد قراءتها خائبين آسفين على ضياع الوقت. !

     وعندما استوعب الكُتَّاب والمُؤلِّفون الكُتَيِّبَ قراءةً علموا أنّ انتقادَ الحاسدين إنما يرجع إلى سببين أساسيين: (الف) الجهل بقواعد اللغة وأساليبها التعبيريّة المتنوعة، وعدم الإحاطة باستعمالاتها العديدة المتعلقة بمعنى واحد وغرض واحد، ودراستها الناقصة المبتورة غير المشبعة وغير المجدية في الانتقاد وإحصاء الأخطاء. (ب) الحسد المتناهي للمؤلفين والكُتَّاب على أن القراء لماذا يتهافتون على قراءة كتاباتهم ومُؤَلَّفاتهم تهافتَ الفراش على النور.

     عندما يَطّلع الدارسُ على نفسيّة الحُسَّد يتعجب، ويدهش، ويتذمّر، ويتساءل: لماذا يحسد الحاسدون غيرَهم هذا الحسدَ كُلَّه؟ ويقول في نفسه: ما أكثر أنواع الحسد؟! ويسائل الحاسدين: هل تَشَبَّعْتُم حسدًا على نعم المتعارفين والإخوان وذوي الأواصر حتى سنحت لكم فرصة لحسد الأجانب وغير المتعارفين الذين لم يتعرض لكم قطّ بالكلام والسلام فضلاً عن الخصام والملام حتى رميتموهم بسهام عدائكم وحسدكم ؟!.

     على أنّ الحاسدين قد يحسدون المُؤَلِّفين والكُتّابَ من الناحية التي يكونون هم برآء منها. مثلاً ينتقدون أن لغة الكتابة ضعيفة لا ترتقي إلى المستوى اللغوي المثالي الذي يعتمده الكُتَّاب والأدباء الموثوق بهم. على حين إن المُؤَلِّفين أو الكُتَّاب يكونون لم يَدِّعو صراحةً أو كنايةً أنهم اختاروا في الكتابة والتأليف أوثق الأساليب اللغوية وأن لغتهم مثاليّة . ولم يقولوا قطّ: إنّ مُؤَلَّفَاتهم فوق كل انتقاد وانتقاص، وأنها عمل نموذجي يتقاصر دونه طموح المنتقدين وتزيّد الحاسدين، وأنّها مفخرة لم يسبقهم فيها أحد، ولن يشقّ غبارَها مستقبلاً. على حين إن الكُتَّاب والمُؤَلِّفين قد يكونون من المتواضعين المنكرين للذّوات، والمعتقدين بأن أعمالهم لاترتقي إلى مستوى من الجودة.

     وذلك يدلّ على أن الحسد لايكون مبعثه الوحيد التعارفُ بين الشخصين والتعاملُ بين الرجلين؛ بل قد ينشأ الحسد ضدّ أحد لدى أولئك الذين يكونون له أجانب؛ ولكنهم يرون أن العزّ الذي حازه والسمعة التي نالها إنما هما حقُّهم الذي أَخْطَأَهُمْ إليه، فلابدّ لهم من استرداده منه، والطريقُ المباشر إلى الاسترداد إنما هو إنتقاص ما قام به من الأعمال، التي أكسبته الاحترام والذكر.

     إذًا فالحسد قد يؤدّي إليه جميعُ الأسباب التي يكسب بها المرأ المال والثراء، أو العزّ والجاه، أو الثقة والاعتبار، أو السمعة والوقار. قَدْ قال لي أكبر فقيه في الهند في العصر الأخير: القاضي مجاهد الإسلام القاسمي رحمه الله (1355-1423هـ = 1936-2002م) مؤسس مجمع الفقه الإسلامي بالهند والهيئة الملية لعموم الهند ورئيس هيئة الأحوال الشخصية لعموم الهند سابقًا، وهو يتحادث معي خلال إحدى قدماتي إليه في مكتبه بمقر الإمارة الشرعية – لولايات بيهار وأريسه وجهاركهند – بـ«بهلواري شريف» إحدى قطاعات مدينة «بتنه» عاصمة ولاية «بيهار» إحدى ولايات الهند: إن كثيرًا من العلماء والدارسين والمتعلمين الذين يزورونني أو يرتادون مقر الإمارة يحسدونني هؤلاءَ الكتبَ. وأشار رحمه الله إلى الكتب العربيّــة القيمــة التي كانت مُنَضَّـدَة في الخزانات الحديدية حوله من إصدارات العالم العربي الحديثة، وكانت تأخذ الأبصار والقلوبَ بمظهرها الجميل وأغلفتها الجذّابة وطباعتها الرائعة وتجليداتها الفاخرة، وقال لمن حوله من الشباب المتوفرين لديه على دراسة الفقه والاختصاص فيه: لاتَدَعُوا هذا الشيء الكثير من أمثال هذه الكتب الجميلة، دون ستار يسترها من أعين الغادين والرائحين. إنّ النّاس يحسدون بني جنسهم أمثالَ هذه الكتب أيضًا، ولاسيّما إذا كانت لديهم أهلية – ولو متواضعة – للدراسة والكتابة أو رغبة فيهما نشأت لديهم لسبب.

     وجَرَّبَ كاتبُ هذه السطور بدوره هذا النوع من الحسد، واصطلى بناره. عام 1984م زار جامعة الملك سعود بالرياض، وحصل من مكتبتها المركزية على طائفة من الكتب الصادرة حديثًا في موضوعات الأدب والتأريخ والشعر. وتكرّم سعادة عميد شؤون المكتبات فشحنها بالبريد الجوّي على عنواني بالهند. وعدتُ من الرياض، ووصلت الكتب بعد مقدمي بأيام، وجاء بها ساعي البريد إلى غرفة ملاصقة لمكتب رئيس الجامعة لدينا، ودعاني منسق أعمال الرئيس لأستلمها؛ فقال لي عندما حضرتُ: اِسحبوها عاجلاً إلى مقر إقامتكم؛ فإنّ بعض الأساتذة – وقد سمّاه لي – وقع نظره عليها فتلمّس الطرودَ وقرأ العنوان وأعاد النظر، واستعبرت عيناه من شدّة ما كَبَّلَه من الكيفية الغريبة من الحسد، وكاد يَتَفَجَّرُ بكاءً ولكنه نهض آسفًا كأنّه فَقَدَ أعزَّ وأثمنَ ما لديه من الأغراض. ومنذ أن علمتُ بهذا الحادث الذي مُنِيْتُ به أوّلَ مرة – كما أذكر – أصبح من عادتي أني أحذر الرجلَ، وأحاول أن لايدخلَ حجرتي التي تشتمل على مختاراتي من الكتب التي تشتدّ بي الحاجةُ إليها لدى الدراسة والكتابة. وإن دخل على غفلة مني أسرع إلى تغطتيها ضنًّا بها عليه وعلى أمثاله من ضيّقي الصدر والأفق الذين يعتقدون أنهم هم وحدهم «ذووالعلم» وغيرهم مغمورون بالجهل؛ فهم وحدهم يستحقون الكتب المهداة من فرد أو جماعة في داخل الهند وخارجها .

     اللهم ارحمنا نحن الإنسان الذي لايتعلّم الإنسانيةَ بمجرد دراسة الكتب وقراءة الحروف والكلمات، وإنما نحتاج لكي نتعلمها إلى صحبة الصالحين الطويلة مقدرين إيّاها ومتمتعين بها، وذلك عندما نعيش الوقتَ الكافيَ في ظلال أمرهم ونهيهم، وزجرهم وتوبيخهم، فقد يتاح لنا بعد ذلك أن نتسلح بالتواضع والانكسار اللذين إنما يتأتّيانِ بصعوبة بالغة جدًّا . إن كسبَ العلم مجردًا من تربية الصالحين وصحبة المتقين، جربتُ أنّه يُخَرِّجُ الإنسان شيطانًا وقلما يخرجه إنسانًا إلاّ إذا شاء الله، والله على ما يشاء قدير. وذلك لأن الإعجاب بالنفس والشعور بالعلو والكبر وما إلى ذلك من الأمراض الخلقية المستعصية على العلاج إنما ينشأ بالعلم المجرد من التربية بالسرعة وبالقدر اللذين لاينشأ بهما بالجهل.

     إنّ الحسد داء عضال ينشأ من مُرَكَّب النقص، وهو – مركب النقص – ينشأ كالأدواء الخلقية السلبية الأخرى عن الشعور بأنه – صاحبه – ليس بشيء ، وأنّ ربّه لم يجعله أهلاً لشيء، وأنه وحده من بين الأنام أحمقُ بَلْدَمٌ دنيء خائب كَهَامٌ لم يجنِ إلاّ الخسارة والشقاء وأن أقرانه كسب كلَّ شيء رغم كونهم غير مُؤَهَّلين. وبما أنّه خاسر في الحياة، فينبغي أن يعود كل إنسان خاسرًا معه. إنّه لم ينتصر في الحياة ولم يسعد، فيجب أن يجعل كل الأحياء أشقياء أو يجعلهم يشعرون بأنهم أشقياء .

     عصرنا هذا – من سوء الحظّ – عاد ماديًّا بنسبة أكبر من النسبة المئويّة، بات يعادي الله، ويحاربه في السر والعلن، ويحاول أن يهزمه – ونعوذ بالله من ذلك – فتحرر من القيم الخلقية والآداب الإنسانية، فأصبح الحسد ظاهرة كالظواهر السلبية الأخرى التي تعم كالماء والهواء، فصار كل من أفراد الجنس البشري يحسد إخوانه ولا يرضيه بشكل أن يرى غيره يفوقه في شيء حتى صار الصغير يحسد الكبير، والتلميذ أستاذه، ويحقد عليه ما يتمتع به من العزّ والاحترام اللذين هما وليد سنوات طويلة قضاها في الجدّ والاجتهاد، وكأنّه يقول في نفسه: إنه هو المستحق لهما دون كبيره وأستاذه. إنّه يتعامى عن التضحيات التي قدّمها كبيره وأستاذه، إنه إنما حظي ببعض العز والرخاء بعد ما ضحّى بكثير من اللذائذ والطيبات. والصغير والتلميذ يودّان أن يحظى بالعز والفخار دونما تضحية. قد سمعتُ المفكر الإسلامي والداعية الكبير سماحة الشيخ أبا الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله (1333-1420هـ = 1913-1999م) أكثر من مرة عبر حديثه في مجالسه وعبر خطاباته في الحفلات: إن الناس يغبطون الصلحاء والعلماء على حالتهم السعيدة الحالية ولاينظرون إلى حالتهم السابقة التي كانت مثالاً للتضحية والجدّ والكدّ .

*  *  *

     وقد حَرَّمت الشريعة الإسلامية الحسدَ. والحسدُ هو تمنّي زوال النعمة عن صاحبها، سواء أكانت نعمةَ دين أو دنيا؛ فقال الله تعالى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتـٰـهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِه» (النساء/54).

     وعن أنس – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لاَتَبَاغَضُوا، ولاَتَحَاسَدُوا، وَلاَتَدَابَرُوا، ولاَتَقَاطَعُوا، وكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخوانًا، ولاَ يَحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» (متفق عليه).

     وعن أبي هـريرة – رضي الله عنه – أن النبي – قال: «إيّاكم والحسدَ؛ فإنّ الحسدَ يأكل الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحَطَبَ، أو قال: العُشْبَ» (رواه أبـوداؤد . وفي الباب عــن أنس عنــــد الإمام ابن ماجـــة بلفظ: «الحســد يــأكل الحسناتِ كمـا تأكلُ النارُ الحطبَ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ»).

     ولم يُجِزِ الإسلامُ الحسدَ إلاّ في أمرين: (الف) إنفاق المال في سبيل الدين (ب) تعلُّم العلم وتعليمه؛ فقال النبي – – فيما يرويه ابن مسعود – رضي الله عنه – عنه – –:«لاحسدَ إلاّ في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلَّطَه على هَلَكَته في الحق،ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويُعَلِّمُها» (متفق عليه)

     ومعنى الإنفاق في الحق: الإنفاق في القربات والطاعات وفيما يُكْسِبُ الثوابَ ورضاَ اللهِ تعالى .

      وكثيرًا ما تتمثل معاني الحسد في العلماء والمُعَلِّمين، وهم أجدر الناس بالاحتراز منه؛ لأنه مما يلغي بركات جميع أعمالهم التعليمية ويجعلها مجردة من كل جزاء في الآخرة، وهو الذي يجب أن يكون غرضَ المؤمن من كل ما يعمل به في الدنيا: دارالعمل ومزرعة الآخرة .

      وقد قال فيما قال الإمام النووي رحمه الله (أبوزكريا محي الدين يحيى بن شرف بن مري الحزامي الحوراني النووي الدمشقي 631-676هـ = 1233-1277م) في كتابه «المجموع» (1/25) وهو ينصح المُعَلِّمين:

     «... ويجب الحذر من الحسد والرياء والإعجاب واحتقار الناس، وإن كانوا دونه بدرجات. وطريقُه في نفي الحسد أن يعلم أن حكمـــة الله تعالى اقتضت جَعْلَ هذا الفضل في هذا الإنسان؛ فلا يعترض ويكره ما اقتضته الحكمةُ».

     وقد صدق الإمام؛ حيث إن من يراعي ويستحضر حكمة الله و مشيئته في الأمور التي تحدث في الكون لايسيغ الحسدَ؛ لأنّه يعلم أن النعمة في فلان من عند الله وعدمها في فلان من عند الله، فلا فائدة في تمني زوالها منه؛ لأنّها لاتزول بمشيئته وإنما بمشيئة الله، ومشيئةُ الله غيرُ معلومة لأحد، وهي التي تتحقق لا مشيئة العباد.

     إذًا فالذي يتمنى زوالَ النعمة عن أحد، يظل في تعب لافكاك له منه، لأنّه يشتغل بما لا يقدر هو على الاتيان به وإنما يقدر عليه الله وحده. والمتمني زوالَ النعمة عن أحد كمن يتمنى زوالَ النور عن الشمس، وهو لايزول عنها، فيدوم تعبُه، ويطول حزنُه. وقد صدق الشاعر الحكيم المتنبئ (أبوالطيب أحمد بن الحسين بن الحسن الجعفي الكوفي الكندي 303-354= 915-965م) إذ قال:

وَفِي تَعَب مَنْ يَحْسُدُ الشمسَ نورَها

ويَجْهَـــــد أَنْ يأتِــــي لَهَا بضَــــــرِيب

     الغريب أن العلماء – ولديهم علم بالشريعة وهم أحق الناس بمخافة الله ومراعاة أوامره ونواهيه – أكثر الناس تورّطاً في المساوئ التي حَذَّرَ منها الشرعُ تحذيرًا مُؤَكَّدًا . ومنها الحسدُ الأكول للحسنات، وكأن العلماء أصبحوا أَيْئَسُ الناس من الله وعدله وحكمته في توزيع الفضل والنّعم وتقدير الأشياء. أعاذنا الله جميعًا من كل ما يسخط الله، و وفّقنا لكل ما يرضيه.

 

(تحريرًا في الساعة :3010 من ضحى يوم الثلاثاء:يوم السبتاللائقَ والتقديرَ الذي يستحقّه، وأن تدعو ربّك أن يديمه على ما هو عليه ما تطول به الحياة. ينتمي إليه؛ فلا بدّ أن تمنحه 13/رجب 1427هـ = 8/8/2006م)

أبو أسامة نور

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان - شوال 1427هـ = أكتوبر - نوفمبر 2006م ، العـدد : 9-10 ، السنـة : 30.